فصل: الوقوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القراءات والوقوف:

قال نظام الدين النيسابوري:

.القراءات:

{لترون} بضم التاء من الإراءة مجهولًا: ابن عامر وعلي.

.الوقوف:

{التكاثر} o لا {المقابر} o ك لأن {كلًا} بمعنى حقًا وقد يحمل على الردع عن التكاثر {سوف تعلمون} o لا {سوف تعلمون} o {اليقين} o ط لأن جواب (لو) محذوف وقوله: {لترون} جواب قسم {الجحيم} o لا {اليقين} o {النعيم} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
الإلهاء الصرف إلى اللهو.
واللهو الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى، ومعلوم أن الانصراف إلى الشيء يقتضي الإعراض عن غيره، فلهذا قال أهل اللغة: ألهاني فلان عن كذا أي أنساني وشغلني، ومنه الحديث: «أن الزبير كان سمع صوت الرعد لهى عن حديثه» أن تركه وأعرض عنه، وكل شيء تركته فقد لهيت عنه، والتكاثر التباهي بكثرة المال والجاه والمناقب يقال: تكاثر القوم تكاثرًا إذا تعادلوا مالهم من كثرة المناقب، وقال أبو مسلم: التكاثر تفاعل عن الكثرة والتفاعل يقع على أحد وجوه ثلاثة يحتمل أن يكون بين الإثنين فيكون مفاعله، ويحتمل تكلف الفعل تقول: تكارهت على كذا إذا فعلته وأنت كاره، وتقول: تباعدت عن الأمر إذا تكلفت العمى عنه وتقول: تغافلت، ويحتمل أيضًا الفعل بنفسه كما تقول: تباعدت عن الأمر أي بعدت عنه، ولفظ التكاثر في هذه الآية ويحتمل الوجهين الأولين، فيحتمل التكاثر بمعنى المفاعلة لأنه كم من اثنين يقول كل واحد منهما لصاحبه: {أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] ويحتمل تكلف الكثرة فإن الحريص يتكلف جميع عمره تكثير ماله، واعلم أن التفاخر والتكاثر شيء واحد ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} [الحديد: 20].
المسألة الثانية:
اعلم أن التفاخر إنما يكون بإثبات الإنسان نوعًا من أنواع السعادة لنفسه، وأجناس السعادة ثلاثة:
فأحدها: في النفس والثانية: في البدن والثالثة: فيما يطيف بالبدن من خارج، أما التي في النفس فهي العلوم والأخلاق الفاضلة وهما المرادان بقوله حكاية عن إبراهيم: {رَبّ هَبْ لِى حُكْمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} [الشعراء: 83] وبهما ينال البقاء الأبدي والسعادة السرمدية.
وأما التي في البدن فهي الصحة والجمال وهي المرتبة الثانية، وأما التي تطيف بالبدن من خارج فقسمان:
أحدهما: ضروري وهو المال والجاه والآخر غير ضروري وهو الأقرباء والأصدقاء وهذا الذي عددناه في المرتبة الثالثة إنما يراد كله للبدن بدليل أنه إذا تألم عضو من أعضائه فإنه يجعل المال والجاه فداء له.
وأما السعادة البدنية فالفضلاء من الناس إنما يريدونها للسعادة النفسانية فإنه ما لم يكن صحيح البدن لم يتفرغ لاكتساب السعادات النفسانية الباقية، إذا عرفت هذا فنقول: العاقل ينبغي أن يكون سعيه في تقديم الأهم على المهم، فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان والأقرباء تفاخر بأخس المراتب من أسباب السعادات، والاشتغال به يمنع الإنسان من تحصيل السعادة النفسانية بالعلم والعمل، فيكون ذلك ترجيحًا لأخس المراتب في السعادات على أشرف المراتب فيها، وذلك يكون عكس الواجب ونقيض الحق، فلهذا السبب ذمهم الله تعالى فقال: {ألهاكم التكاثر} ويدخل فيه التكاثر بالعدد وبالمال والجاه والأقرباء والأنصار والجيش، وبالجملة فيدخل فيه التكاثر بكل ما يكون من الدنيا ولذاتها وشهواتها.
المسألة الثالثة:
قوله: {ألهاكم} يحتمل أن يكون إخبارًا عنهم، ويحتمل أن يكون استفهامًا بمعنى التوبيخ والتقريع أي أألهاكم، كما قرئ {أنذرتهم} و{أأنذرتهم} [البقرة: 6]، و{إذا كنا عظامًا} و{أئذا كنا عظامًا} [الإسراء: 49].
المسألة الرابعة:
الآية دلت على أن التكاثر والتفاخر مذموم والعقل دل على أن التكاثر والتفاخر في السعادات الحقيقية غير مذموم، ومن ذلك ما روي من تفاخر العباس بأن السقاية بيده، وتفاخر شيبة بأن المفتاح بيده إلى أن قال علي عليه السلام: وأنا قطعت خرطوم الكفر بسيفي فصار الكفر مثلة فأسلمتم فشق ذلك عليهم فنزل قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} [التوبة: 19] الآية وذكرنا في تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فحدث} [الضحى: 11] أنه يجوز للإنسان أن يفتخر بطاعاته ومحاسن أخلاقه إذا كان يظن أن غيره يقتدي به، فثبت أن مطلق التكاثر ليس بمذموم، بل التكاثر في العلم والطاعة والأخلاق الحميدة، هو المحمود، وهو أصل الخيرات، فالألف واللام في التكاثر ليسا للاستغراق، بل للمعهود السابق، وهو التكاثر في الدنيا ولذاتها وعلائقها، فإنه هو الذي يمنع عن طاعة الله تعالى وعبوديته، ولما كان ذلك مقررًا في العقول ومتفقًا عليه في الأديان، لا جرم حسن إدخال حرف التعريف عليه.
المسألة الخامسة:
في تفسير الآية وجوه:
أحدها: ألهاكم التكاثر بالعدد.
روي أنها نزلت في بني سهم وبني عبد مناف تفاخروا أيهم أكثر فكان بنو عبد مناف أكثر فقال: بنو سهم عدوا مجموع أحيائنا وأمواتنا مع مجموع أحيائكم وأمواتكم، ففعلوا فزاد بنو سهم، فنزلت الآية وهذه الرواية مطابقة لظاهر القرآن، لأن قوله: {حتى زُرْتُمُ المقابر} يدل على أنه أمر مضى.
فكأنه تعالى يعجبهم من أنفسهم، ويقول هب أنكم أكثر منهم عددًا فماذا ينفع، والزيارة إتيان الموضع، وذلك يكون لأغراض كثيرة، وأهمها وأولاها بالرعاية ترقيق القلب وإزالة حب الدنيا فإن مشاهدة القبور تورث ذلك على ما قال عليه السلام: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة» ثم إنكم زرتم القبور، بسبب قساوة القلب والاستغراق في حب الدنيا فلما انعكست هذه القضية، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك في معرض التعجيب.
والقول.
الثاني: أن المراد هو التكاثر بالمال واستدلوا عليه بما روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه، أنه عليه السلام كان يقرأ: {ألهاكم} وقال ابن آدم: يقول مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنبت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، والمراد من قوله: {حتى زُرْتُمُ المقابر} أي حتى متم وزيارة القبر عبارة عن الموت، يقال لمن مات: زار قبره وزار رمسه، قال جرير للأخطل:
زار القبور أبو مالك** فأصبح ألأم زوارها

أي مات فيكون معنى الآية: ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت، وأنتم على ذلك، يقال حمله على هذا الوجه مشكل من وجهين:
الأول: أن الزائر هو الذي يزور ساعة ثم ينصرف، والميت يبقى في قبره، فكيف يقال: إنه زار القبر؟.
والثاني: أن قوله: {حتى زُرْتُمُ المقابر} إخبار عن الماضي، فكيف يحمل على المستقبل؟ والجواب: عن السؤال الأول أنه قد يمكث الزائر، لكن لابد له من الرحيل، وكذا أهل القبور يرحلون عنها إلى مكان الحساب والجواب: عن السؤال الثاني من وجوه:
أحدها: يحتمل أن يكون المراد من كان مشرفًا على الموت بسبب الكبر، ولذلك يقال فيه: إنه على شفير القبر.
وثانيها: أن الخبر عمن تقدمهم وعظًا لهم، فهو كالخبر عنهم، لأنهم كانوا على طريقتهم، ومنه قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَبيينَ} [آل عمران: 21].
وثالثها: قال أبو مسلم: إن الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييرًا للكفار، وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور.
القول الثالث: ألهاكم الحرص على المال وطلب تكثيره حتى منعتم الحقوق المالية إلى حين الموت، ثم تقول في تلك الحالة: أوصيت لأجل الزكاة بكذا، ولأجل الحج بكذا.
القول الرابع: ألهاكم التكاثر فلا تلتفتون إلى الدين، بل قلوبكم كأنها أحجار لا تنكسر ألبتة إلا إذا زرتم المقابر، هكذا ينبغي أن تكون حالكم، وهو أن يكون حظكم من دينكم ذلك القدر القليل من الانكسار، ونظيره قوله تعالى: {قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] أي لا أقنع منكم بهذا القدر القليل من الشكر.
المسألة السادسة:
أنه تعالى لم يقل: ألهاكم التكاثر عن كذا وإنما لم يذكره، لأن المطلق أبلغ في الذم لأنه يذهب الوهم فيه كل مذهب، فيدخل فيه جميع ما يحتمله الموضع، أي: ألهاكم التكاثر عن ذكر الله وعن الواجبات والمندوبات في المعرفة والطاعة والتفكر والتدبر، أو نقول: إن نظرنا إلى ما قبل هذه الآية فالمعنى: ألهاكم التكاثر عن التدبر في أمر القارعة والاستعداد لها قبل الموت، وإن نظرنا إلى الأسفل فالمعنى ألهاكم التكاثر، فنسيتم القبر حتى زرتموه.
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
أما قوله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فهو يتصل بما قبله وبما بعده أما الأول، فعلى وجه الرد والتكذيب أي ليس الأمر كما يتوهمه هؤلاء من أن السعادة الحقيقية بكثرة العدد والأولاد، وأما اتصاله بما بعده، فعلى معنى القسم أي حقًا سوف تعلمون لكن حين يصير الفاسق تائبًا، والكافر مسلمًا، والحريص زاهدًا، ومنه قول الحسن: لا يغرنك كثرة من ترى حولك فإنك تموت وحدك، وتحاسب وحدك، وتقريره: {يَوْمَ يَفِرُّ المرء} [عبس: 34] {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80] و{لَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} إلى أن قال: {وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم} [الأنعام: 94] وهذا يمنعك عن التكاثر، وذكروا في التكوير وجوهًا أحدها: أنه للتأكيد، وأنه وعيد بعد وعيد كما تقول: للمنصوح أقول لك، ثم أقول لك لا تفعل.
وثانيها: أن الأول عند الموت حيث يقال له: لا بشرى والثاني في سؤال القبر: من ربك؟ والثالث عند النشور حين ينادي المنادي، فلأن شقى شقاوة لا سعادة بعدها أبدًا وحين يقال: {وامتازوا اليوم} [يس: 59].
وثالثها: عن الضحاك سوف تعلمون، أيها الكفار: ثم كلا سوف تعلمون أيها المؤمنون، وكان يقرؤها كذلك، فالأول وعيد والثاني وعد ورابعها: أن كل أحد يعلم قبح الظلم والكذب وحسن العدل والصدق لكن لا يعرف قدر آثارها ونتائجها، ثم إنه تعالى يقول: سوف تعلم العلم المفضل لكن التفصيل يحتمل الزائد فمهما حصلت زيادة لذة، ازداد علمًا، وكذا في جانب العقوبة فقسم ذلك على الأحواس، فعند المعاينة يزداد، ثم عند البعث، ثم عند الحساب، ثم عند دخول الجنة والنار، فلذلك وقع التكرير وخامسها: أن إحدى الحالتين عذاب القبر والأخرى عذاب القيامة، كما روي عن ذر أنه قال: كنت أشك في عذاب القبر، حتى سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: إن هذه الآية تدل على عذاب القبر، وإنما قال: {ثُمَّ} لأن بين العالمين والحياتين موتًا.
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)}
ثم قال تعالى: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اتفقوا على أن جواب (لو) محذوف، وأنه ليس قوله: {لَتَرَوُنَّ الجحيم} جواب (لو) ويدل عليه وجهان.
أحدهما: أن ما كان جواب لو فنفيه إثبات، وإثباته نفي، فلو كان قوله: {لَتَرَوُنَّ الجحيم} جوابًا للو لوجب أن لا تحصل هذه الرؤية، وذلك باطل، فإن هذه الرؤية واقعة قطعًا.
فإن قيل: المراد من هذه الرؤية رؤيتها بالقلب في الدنيا، ثم إن هذه الرؤية غير واقعة.
قلنا: ترك الظاهر خلاف الأصل.
والثاني: أن قوله: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} [التكاثر: 8] إخبار عن أمر سيقع قطعًا، فعطفه على مالا يوجد ولا يقع قبيح في النظم، واعلم أن ترك الجواب في مثل هذا المكان أحسن، يقول الرجل للرجل: لو فعلت هذا أي لكان كذا، قال الله تعالى: {لَوْ يعلم الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء: 39] ولم يجيء له جواب وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ} [الأنعام: 30] إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في جواب لو وجوهًا أحدها: قال الأخفش: لو تعلمون علم اليقين ما ألهاكم التكاثر.
وثانيها: قال أبو مسلم لو علمتم ماذا يجب عليكم لتمسكتم به أو لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به.
وثالثها: أنه حذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب فيكون التهويل أعظم، وكأنه قال: لو علمتم علم اليقين لفعلتم مالا يوصف ولا يكتنه، ولكنكم ضلال وجهلة، وأما قوله: {لَتَرَوُنَّ الجحيم} فاللام يدل على أنه جواب قسم محذوف، والقسم لتوكيد الوعيد، وأن ما أوعدا به مما لا مدخل فيه للريب وكرره معطوفًا بثم تغليظًا للتهديد وزيادة في التهويل.
المسألة الثانية:
أنه تعالى أعاد لفظ كلا وهو للزجر، وإنما حسنت الإعادة لأنه عقبه في كل موضع بغير ما عقب به الموضع الآخر، كأنه تعالى قال: لا تفعلوا هذا فإنكم تستحقون به من العذاب كذا لا تفعلوا هذا فإنكم تستوجبون به ضررًا آخر، وهذا التكرير ليس بالمكروه بل هو مرضي عندهم، وكان الحسن رحمه الله يجعل معنى {كَلاَّ} في هذا الموضع بمعنى حقًا كأنه قيل حقًا: لو تعلمون علم اليقين.
المسألة الثالثة:
في قوله: {عِلْمَ اليقين} وجهان.
أحدهما: أن معناه علمًا يقينًا فأضيف الموصوف إلى الصفة، كقوله تعالى: {ولدارُ الأخرة} [يوسف: 109] وكما يقال: مسجد الجامع وعام الأول.
والثاني: أن اليقين هاهنا هو الموت والبعث والقيامة، وقد سمي الموت يقينًا في قوله: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 99] ولأنهما إذا وقعا جاء اليقين، وزال الشك فالمعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التكاثر والتفاخر عن ذكر الله، وقد يقول الإنسان: أنا أعلم علم كذا أي أتحققه، وفلان يعلم علم الطب وعلم الحساب، لأن العلوم أنواع فيصلح لذلك أن يقال: علمت علم كذا.
المسألة الرابعة:
العلم من أشد البواعث على العمل، فإذا كان وقت العمل أمامه كان وعدًا وعظة، وإن كان بعد وفاة وقت العمل فحينئذ يكون حسرة وندامة، كما ذكر أن ذا القرنين لما دخل الظلمات (وجد خرزًا)، فالذين كانوا معه أخذوا من تلك الخرز فلما خرجوا من الظلمات وجدوها جواهر، ثم الأخذون كانوا في الغم أي لما لم يأخذوا أكثر مما أخذوا، والذين لم يأخذوا كانوا أيضًا في الغم، فهكذا يكون أحوال أهل القيامة.
المسألة الخامسة:
في الآية تهديد عظيم للعلماء فإنها دلت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر والتفاخر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر، وهذا يقتضي أن من لم يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلًا له فالويل للعالم الذي لا يكون عاملًا ثم الويل له.
المسألة السادسة:
في تكرار الرؤية وجوه:
أحدها: أنه لتأكيد الوعيد أيضًا لعل القوم كانوا يكرهون سماع الوعيد فكرر لذلك ونون للتأكيد تقتضي كون تلك الرؤية اضطرارية، يعني لو خليتم ورأيكم ما رأيتموها لكنكم تحملون على رؤيتها شئتم أم أبيتم.
وثانيها: أن أولهما الرؤية من البعيد: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظًا} [الفرقان: 12] وقوله: {وَبُرّزَتِ الجحيم لِمَن يرى} [النازعات: 36] والرؤية الثانية إذا صاروا إلى شفير النار.
وثالثها: أن الرؤية الأولى عند الورود والثانية عند الدخول فيها.
قيل: هذا التفسير ليس بحسن لأنه قال: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ} والسؤال يكون قبل الدخول ورابعها: الرؤية الأولى للوعد والثانية المشاهدة وخامسها: أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة فيكون ذكر الرؤية مرتين عبارة عن تتابع الرؤية واتصالها لأنهم مخلدون في الجحيم فكأنه قيل لهم: على جهة الوعيد، لئن كنتم اليوم شاكين فيها غير مصدقين بها فسترونها رؤية دائمة متصلة فتزول عنكم الشكوك وهو كقوله: {مَّا ترى في خلق الرحمن مِن تفاوت}- إلى قوله- {ثمَ ارجع البصر كَرَّتَيْنِ} [الملك: 3، 4] بمعنى لو أعدت النظر فيها ما شئت لم تجد فطورًا ولم يرد مرتين فقط، فكذا ههنا، إن قيل: ما فائدة تخصيص الرؤية الثانية باليقين؟.
قلنا: لأنهم في المرة الأولى رأوا لهبًا لا غير، وفي المرة الثانية رأوا نفس الحفرة وكيفية السقوط فيها وما فيها من الحيوانات المؤذية، ولا شك أن هذه الرؤية أجلى، والحكمة في النقل من العلم الأخفى إلى الأجلى التفريع على ترك النظر لأنهم كانوا يقتصرون على الظن ولا يطلبون الزيادة.
المسألة السابعة:
قراءة العامة {لترون} بفتح التاء، وقرئ بضمها من رأيته الشيء، والمعنى أنهم يحشرون إليها فيرونها، وهذه القراءة تروى عن ابن عامر والكسائي كأنهما أرادا لترونها فترونها، ولذلك قرأ الثانية: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} بالفتح، وفي هذه الثانية دليل على أنهم إذا أروها رأوها وفي قراءة العامة الثانية تكرير للتأكيد ولسائر الفوائد التي عددناها، واعلم أن قراءة العامة أولى لوجهين:
الأول: قال الفراء: قراءة العامة أشبه بكلام العرب لأنه تغليظ، فلا ينبغي أن الجحيم لفظه.
الثاني: قال أبو على المعنى في: {لَتَرَوُنَّ الجحيم} لترون عذاب الجحيم، ألا ترى أن الجحيم يراها المؤمنون أيضًا بدلالة قوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] وإذا كان كذلك كان الوعيد في رؤية عذابها لا في رؤية نفسها يدل على هذا قوله: {إِذْ يَرَوْنَ العذاب} [البقرة: 165] وقوله: {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب} [النحل: 85] وهذا يدل على أن {لترون} أرجح من (لترون).
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} فيه قولان:
المسألة الأولى:
في أن الذي يسأل عن النعيم من هو؟ فيه قولان:
أحدهما: وهو الأظهر أنهم الكفار، قال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار ويدل عليه وجهان:
الأول: ما روي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية، قال يا رسول الله: أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر وماء عذب أن تكون من النعيم الذي نسأل عنه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنما ذلك للكفار، ثم قرأ: {وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور} [سبأ: 17].
والثاني: وهو أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه، وذلك لأن الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى والاشتغال بشكره، فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه سببًا لسعادتهم هو كان من أعظم أسباب الشقاء لهم في الآخرة.
والقول.
الثاني: أنه عام في حق المؤمن والكافر واحتجوا بأحاديث، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له: ألم نصحح لك جسمك ونروك من الماء البارد» وقال محمود بن لبيد: لما نزلت هذه السورة قالوا: يا رسول الله عن أبي نعيم: نسأل؟ إنما هما الماء والتمر وسيوفنا على عواتقنا والعدو حاضر، فعن أي نعيم نسأل؟ قال: «إن ذلك سيكون» وروي عن عمر أنه قال: أي نعيم نسأل عنه يا رسول الله وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقيكم من الحر والبرد والماء البارد في اليوم الحار» وقريب منه: «من أصبح آمنًا في سربه معافى في بدنه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» وروي أن شابًا أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمه رسول الله سورة ألهاكم ثم زوجه رسول الله امرأة فلما دخل عليها ورآى الجهاز العظيم والنعيم الكثير خرج وقال: لا أريد ذلك فسأله النبي عليه الصلاة والسلام عنه فقال: ألست علمتني: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} وأنا لا أطيق الجواب عن ذلك.
وعن أنس لما نزلت الآية قام محتاج فقال: هل على من النعمة شيء؟ قال: الظل والنعلان والماء البارد.
وأشهر الأخبار في هذا ما روي أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات ليلة إلى المسجد، فلم يلبث أن جاء أبو بكر فقال: ما أخرجك يا أبا بكر؟ قال: الجوع، قال: والله ما أخرجني إلا الذي أخرجك، ثم دخل عمر فقال: مثل ذلك، فقال: قوموا بنا إلى منزل أبي الهيثم، فدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الباب وسلم ثلاث مرات فلم يجب أحد فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت امرأته تصيح كنا نسمع صوتك لكن أردنا أن تزيد من سلامك فقال لها: خيرًا، ثم قالت: بأبي أنت وأمي إن أبا الهيثم خرج يستعذب لنا الماء، ثم عمدت إلى صاع من شعير فطحنته وخبزته ورجع أبو الهيثم فذبح عناقًا وأتاهم بالرطب فأكلوا وشربوا فقال عليه الصلاة والسلام: «هذا من النعيم الذي تسألون عنه» وروى أيضًا: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره وماله وشبابه وعمله» وعن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن العبد ليسأل يوم القيامة حتى عن كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعه، عن لمس ثوب أخيه» واعلم أن الأولى أن يقال: السؤال يعم المؤمن والكافر، لكن سؤال الكافر توبيخ لأنه ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر وأطاع.
المسألة الثانية:
ذكروا في النعيم المسئول عنه وجوهًا أحدها: ما روي أنه خمس: شبع البطون وبارد الشراب ولذة النوم وإظلال المساكن واعتدال الخلق.
وثانيها: قال ابن مسعود: إنه الأمن والصحة والفراغ.
وثالثها: قال ابن عباس: إنه الصحة وسائر ملاذ المأكول والمشروب ورابعها: قال بعضهم: الانتفاع بإدراك السمع والبصر وخامسها: قال الحسن بن الفضل: تخفيف الشرائع وتيسير القرآن وسادسها: قال ابن عمر: إنه الماء البارد وسابعها: قال الباقر: إنه العافية، ويروى أيضًا عن جابر الجعفي قال: دخلت على الباقر فقال: ما تقول أرباب التأويل في قوله: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم}؟ فقلت: يقولون الظل والماء البارد فقال: لو أنك أدخلت بيتك أحدا وأقعدته في ظل وأسقيته ماء باردًا أتمن عليه؟ فقلت: لا، قال: فالله أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه، فقلت: ما تأويله؟ قال: النعيم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أنعم الله به على هذا العالم فاستنقذهم به من الضلالة، أما سمعت قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا} [آل عمران: 164] الآية القول الثامن: إنما يسألون عن الزائد مما لابد منه من مطعم وملبس ومسكن.
والتاسع: وهو الأولى أنه يجب حمله على جميع النعم، ويدل عليه وجوه:
أحدها: أن الألف واللام يفيدان الاستغراق.
وثانيها: أنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى الباقي لاسيما وقد دل الدليل على أن المطلوب من منافع هذه الدنيا اشتغال العبد بعبودية الله تعالى.
وثالثها: أنه تعالى قال: {يا بنى إسرائيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] والمراد منه جميع النعم من فلق البحر والإنجاء من فرعون وإنزال المن والسلوى فكذا هاهنا ورابعها: أن النعيم التام كالشيء الواحد الذي له أبعاض وأعضاء فإذا أشير إلى النعيم فقد دخل فيه الكل، كما أن الترياق اسم للمعجون المركب من الأدوية الكثيرة فإذا ذكر الترياق فقد دخل الكل فيه.
واعلم أن النعم أقسام فمنها ظاهرة وباطنة، ومنها متصلة ومنفصلة، ومنها دينية ودنيوية، وقد ذكرنا أقسام السعادات بحسب الجنس في تفسير أول هذه السورة، وأما تعديدها بحسب النوع والشخص فغير ممكن على ما قاله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] واستعن في معرفة نعم الله عليك في صحة بدنك بالأطباء، ثم هم أشد الخلق غفلة، وفي معرفة نعم الله عليك بخلق السموات والكواكب بالمنجمين، وهم أشد الناس جهلًا بالصانع، وفي معرفة سلطان الله بالملوك، ثم هم أجهل الخلق، وأما الذي يروى عن ابن عمر أنه الماء البارد فمعناه هذا من جملته، ولعله إنما خصه بالذكر لأنه أهون موجود وأعز مفقود، ومنه قول ابن السماك للرشيد: أرأيت لو احتجت إلى شربة ماء في فلاة أكنت تبذل فيه نصف الملك؟ فلا تغتر بملك كانت الشربة الواحدة من الماء قيمته مرتين؛ أو لأن أهل النار يطلبون الماء أشد من طلبهم لغيره، قال تعالى: {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء} [الأعراف: 5] أو لأن السورة نزلت في المترفين، وهم المختصون بالماء البارد والظل، والحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعيم سواء كان مما لابد منه (أو لا)، وليس كذلك لأن كل ذلك يجب أن يكون مصروفًا إلى طاعة الله لا إلى معصيته، فيكون السؤال واقعًا عن الكل، ويؤكده ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به» فكل النعيم من الله تعالى داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام.
المسألة الثالثة:
اختلفوا في أن هذا السؤال أين يكون؟.
فالقول الأول: أن هذا السؤال إنما يكون في موقف الحساب.
فإن قيل: هذا لا يستقيم، لأنه تعالى أخبر أن هذا السؤال متأخر عن مشاهدة جهنم بقوله: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ} وموقف السؤال متقدم على مشاهدة جهنم؟.
قلنا: المراد من قوله: {ثُمَّ} أي ثم أخبركم أنكم تسألون يوم القيامة، وهو كقوله: {فَكُّ رقبة أَوْ إِطْعَامٌ في يَوْمٍ ذِى مسغبة} إلى قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} [البلد: 13- 17].
القول.
الثاني: أنهم إذا دخلوا النار سئلوا عن النعيم توبيخًا لهم، كما قال: {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك: 80] وقال: {مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ} [المدثر: 42] ولا شك أن مجيء الرسول نعمة من الله، فقد سئلوا عنه بعد دخولهم النار، أو يقال: أنهم إذا صاروا في الجحيم وشاهدوها، يقال لهم: إنما حل بكم هذا العذاب لأنكم في دار الدنيا اشتغلتم بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة الفائزين بالدرجات، فيكون ذلك من الملائكة سؤالًا عن نعيمهم في الدنيا، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.